رحيل محمد رويشة، الطود الشامخ للأغنية الأمازيغية والعربية المغربية..
ذ. بنعيسى احسينات – المغرب
ذ. بنعيسى احسينات – المغرب
لم يمهل المرض المفاجئ والعملية الجراحية التي كللت بالنجاح بالرباط، محمد رويشة الطود الشامخ للأغنية الأمازيغية والعربية المغربية، إلا وقتا قصيرا للعودة إلى بلدته خنيفرة التي تختزل عالمه ووجوده، حتى فاجأته المنية وهو في أوج عطائه الفني الذائع الصيت، إذ حول موته المدينة إلى مأتم كبير خرج سكانها عن بكرة أبيهم إلى جانب أصدقائه ومحبيه الذين هرعوا إلى خنيفرة، لتشييعه وتوديعه إلى مثواه الأخير. ففاجعة موته لم تقتصر على بلدته بل شملت الوطن بأكمله من غربه إلى شرقه ومن شماله إلى جنوبه. لقد منحته الموت بجدارة واستحقاق أكثر ما منحته له الحياة. وهذا سر العباقرة وكبار الفنانين العصاميين ذوي الكرامة والأنفة والأخلاق العالية.
لقد جبل محمد رويشة منذ نعومة أظافره على حب الفن والجمال، يستوحي من الطبيعة الصامتة حكمتها، ومن صفاء مناخها الصدق والواقعية، وذلك في أسلوب شيق ممتع شفاف، وألحان شجية وأنغام موسيقية أصيلة تغمر النفس بالحب والحنين، وتوقظ الوجدان إلى معانقة السمو والفضيلة وحب الناس، من خلال شعور بالروح الجماعية تسري في أنفاسه سريان النسيم العليل عبر الجبل والغابة وعبر الحقل والوادي. ذلك هو الفنان الأمازيغي صاحب الحنجرة الأطلسية المتميزة الذي تعلم ويتعلم باستمرار من مظاهر الحياة الطبيعية والاجتماعية التي ما تزال مصدر إلهامه منذ صباه، من خلال ما يسمعه من أهازيج وألحان وأنغام، ويتمثله من أغاني وترانيم على آلته الوترية التي لا تفارقه في شتى المناسبات.
لقد يصح القول أن الأمم التي لا تهتم بفنونها وثقافتها وتراثها تنقيبا ودراسة وتحليلا، وكذا جمعا وتصنيفا وتبويبا ومحافظة وتطويرا، لا يمكن أن تحقق ذاتها ووجودها، ولا يتأتى لها أن تحافظ على هويتها واستمرارها في التاريخ، كما لا يمكن لها أن تساهم في بناء الحضارة الإنسانية. فتبقى محكوم عليها بالتخلف والتهميش، مهددة دائما بالانقراض والفناء. ففن الأمم وثقافتها وتراثها هي اللحمة التي تربط بين أجيالها المتعاقبة، والتي تحقق لها مكانتها بين الأمم، وتجعلها تحافظ على كيانها وهويتها ووجودها. فكم من فنون وكم من تراث وكم من ثقافة ضاعت واندثرت مع الزمن، لكون القائمين عليها لم يعيروا لها أي اهتمام يذكر، همهم الوحيد المصلحة الأنانية الخاصة الآنية. هكذا نجد جل تراثنا الفني والثقافي المادي منه والمعنوي، المكتوب منه والشفهي، تعرض ويتعرض كل يوم للتلف والاندثار بشكل منهجي مقصود وغير منهجي، متروك للتسيب والإهمال. وحتى إذا ما تم جمعه أوالاعتناء به، فذلك بعد تفريغه من محتواه الحقيقي، من أجل استعماله كفولكلور للاستهلاك السياحي لا غير.
وإذا رجعنا إلى تراثنا الموسيقي وعلى الخصوص الشعبي منه بأساليبه المتنوعة ولغاته المتعددة التي كانت تنشط في الأعراس والمواسم والأسواق وبعض الساحات العمومية الكبرى كساحة "جامع لفنا" بمراكش وساحة " لهديم " بمكناس مثلا. يعرف اليوم استهلاكا منقطع النظير في مناسبات الأفراح والفنادق الكبرى وعلب ليلية خاصة ومحلات مفروشة الخاصة بالليالي الحمراء وبعض السهرات المحتشمة في بعض القنوات التلفزية لجلب عدد المشاهدين ودغدغة عواطفهم الفطرية الساذجة. لقد تعرض ويتعرض هذا الفن الشعبي في الموسيقى والغناء، رغم تطوره العشوائي الغير المدروس والغير المنظم، للتهميش الشبه المطلق دون الالتفاتة الجادة لهذا الفن الشعبي، انتقاء وتسجيلا وجمعا ودراسة وتحليلا.. وهو يتعرض كل يوم للإهمال والانتقاص من أهميته، من طرف المهتمين الذين يركضون وراء الربح المباشر والآني لا غيره، وبمنطق المنفعة الجشعة في التعامل مع هذا التراث المتنوع المتعدد الغني الأصيل، الذي لا يتجاوز الاستعمال الفلكلوري الوضيع من أجل الاستهلاك السياحي المقدم للأجانب، كلوحات محنطة وبقايا تاريخ في متحف لا حياة فيه. فهو الآن في طريق التهميش، قدره الاضمحلال والانقراض، باستثناء بعض البحوث اليتيمة في هذا المجال، نخص بالذكر بحث نجمي في العيطة وبحوث أحمد عيدون ابن مدينة الخميسات، الباحث الموسيقي في مجال الموسيقى المغربية الشعبية والعصرية وغيرها، وبعض البحوث الغير الأكاديمية على هامش الأغاني الشعبية المتنوعة والمتعددة في المغرب.
لقد تحول مفهوم الفولكلور حسب مبتكره الكاتب الإنجليزي "وليام جون تومز"، من علم يدرس العادات والتقاليد والممارسات الفنية الشعبية والخرافات والملاحم، إلى اقترانه بنزعة تحقيرية استهلاكية صوب كل ما يخص الطبقات الدنيا في المجتمع من تراثها الشعبي، كأنه مشهد منفلت من دهاليز التاريخ القديم، يقدم صورة مدهشة لبدائية الإنسان مليئة بالإثارة وعناصر الغرابة. ويمكن اختزال خصائص هذه النظرة الفولكلورية القدحية الاستهلاكية إلى الفنون الشعبية والتراث الشعبي في الفصل بين أشكال التراث الشعبي ومضامينه الاجتماعية والإنسانية، وفي اعتباره تراثا ينتمي إلى مجتمع ذي ثقافة دونية لا ترقى في مضامينها ولا في أشكالها إلى مستوى الثقافة "العالمة"، وأخيرا في اعتباره مادة للترفيه والمتعة لأناس منفصلين عنه، ينظرون إليه من خارجه كما هو الشأن بالنسبة للسياح الأجانب.
هذه الخصائص امتدت إلى مرحلة ما بعد الاستقلال وتم تأكيدها خلال ممارسات عديدة. ولعل أخطر ما في هذه الوضعية هو أن هذه النظرة الفولكلورية القدحية الاختزالية يتم ترويجها عبر وسائل الإعلام وبرامج التربية والتعليم والمؤسسات والهيئات المختلفة، مما يؤدي إلى الإساءة إلى التراث الفني والثقافي الشعبي المغربي، وطمس لمعالم الهوية الوطنية. وهكذا تم تدجين الذوق العام وصقله على مقاس النظرة الفولكلورية الاستهلاكية، مما جعل شبابنا ينظر بسخرية وازدراء إلى عناصر تراثهم الشعبي، وفي أحسن الأحوال يكون وسيلة للتفريغ المؤقت عن المكبوتات عن طريق الرقص المصاحب لها في الغالب في كل المناسبات.
لقد لعبت الأغاني الشعبية في القرن التاسع عشر دورا كبيرا في شحذ الهمم والتصدي لكل أشكال الاستعمار، كما كانت أسلوبا خاصا لتمرير خطاب التحرر والاستقلال من براثن الاحتلال. فهي تعتبر تراثا مشتركا بين مختلف مناطق المغرب، ومن أكثر وسائل التعبير تأثيرا في المتلقين الذين يجدون في هذا النوع من الفنون الشعبية متنفسا لمشاعرهم ولمشاكلهم اليومية وترجمة لطموحاتهم وآمالهم الكبيرة. هذا الفن الجميل الرائع، ساهم في تأطير الناس، وتوعيتهم وتقديم فرجة غنية بالترفيه، الجامع بين الهزل والجد والفائدة، وجعلهم ينفتحون على العالم ويتعرفون على خباياه قديما وحديثا.
فمن بين الفنانين الشعبيين الذي بزغ نجمه وسطع نوره وملأ الدنيا بقسمات وتره السجية الدافئة، وصوته الرخيم العذب المتميز، وكلمته الهادفة الصادقة النابعة من أعماق جبال الأطلس المتوسط، تلطفها ثلوج القمم وخرير وادي أم الربيع المتدفق وحفيف أشجار الأرز الشاهقة والطبيعة الخضراء الخلابة وسماء الأطلس السخية. إنه محمد رويشة الفنان العصامي الأمازيغي الأصيل، فنان العمق المغربي وجبال الأطلس الملقب بملك " لوتار " وفريد الأطلس المتوسط بدون منازع وزرياب موسيقى " الوترة " إذ زاد من حجم آلته الوترية "لوتار" أو "لكنيبري"، وانفرد بإضافة الوتر الرابع إليها لإثراء أنغامها وتجديدها.
إن الحديث عن إبداع محمد رويشة، هو حديث عن تاريخ حافل بالعطاء الفني المتميز لحوالي 48 سنة من العطاء. لقد طبع هذا الفنان العصامي بعبقريته الموسيقية والغنائية المتفردة فضاء الأغنية الأمازيغية للأطلس المتوسط وكذا الأغنية الشعبية العربية (العامية المغربية الراقية). لقد بدأ الغناء طفلا لا يتجاوز عمره 13 سنة بمدينة خنيفرة بعد ما غادر مقعد المدرسة عام 1961 وهو من مواليد 1952 أو1950 بمدينة خنيفرة. وبعد مغادرته لصفوف المدرسة، شاءت الأقدار أن يلتقي بالأستاذ في مادة الرياضة البدنية محمد العلوي ، لاعب فريق شباب خنيفرة آن ذاك، الذي شجعه على الاستمرار واستقدمه معه إلى الرباط حيث قدمه إلى القسم الأمازيغي بالإذاعة الوطنية بنفس المدينة. وكانت البداية بتسجيل أول شريط له بالدار البيضاء سنة 1964 مع محمد ريان. واستمر في الغناء وإحياء الحفلات والأعراس المحلية وعلى الصعيد الوطني حتى سنة 1979 حيث اتصلت به عدة شركات فنية للتسجيل، ودخل مسرح محمد الخامس ، حيث غنى لأول مرة سنة 1980، ألبومه الذي يحتوي على أغاني بالأمازيغية والعربية " شحال من ليلة وعذاب " و" أكّي زّورخ أسيدي ياربّي جود غيفي "، وهو الألبوم الذي عرف انتشارا واسعا بين محبيه داخل المغرب وخارجه. تكشفت موهبة رويشة باكرا، لم يقو على مغالبة هوسه بالموسيقى فأغلق دونه باب الدراسة رغم شهادة مدرسيه له بالتفوق. أما حين تنبأ له عميد الموسيقى الأمازيغية حمو اليزيد، ذات يوم، بمستقبل واعد، حين سمعه يدندن على "لوتار"، فقد عرف الشاب محمد رويشة أن طريق المجد له اسم واحد : الاجتهاد والتضحية .ومن بين الإبداعات التي بصم بها الراحل محمد رويشة ربرتواره الغنائي "شحال من ليلة وليلة"، "يا مجمع المؤمنين"، "قولوا لميمتي"، "أيولينو"، و" سامحيي يايما " ورائعته ذائعة الصيت "إناس إناس " .
فالفنان العصامي رويشة يمتاز في أداءه الموسيقي بالمزج بين ألوان محلية ووطنية وذلك في قالب لا يخرج عن المقام الأطلسي الذي يمتاز باعتماده على “ربع نوتة”، أما بالنسبة لآلة الوتر فأشار رويشة نفسه إلى أنها ظهرت في الأطلس المتوسط في القرن الخامس عشر بقبيلة "إيشقيرن" على يد شخص يسمى "أوبراها". وهو بذلك يبقى وفيا لمعنى اسمه “روي شا” بالامازيغية، أي “ اخلط شيئا ”، وهو مزج فني لا يستطيع إتقانه إلا من كانت له أذن موسيقية مرهفة كالفنان محمد رويشة. هو فنان أصيل، صوت مفعم بالأحاسيس الرائعة، متشبث بأصالته المغربية الأمازيغية، ومُعتز بلغتيه، الأمازيغية والعربية المغربية، اللتين أبدع في توظيفهما في أعمال غنائية متنوعة، بأحاسيس مرهفة، وموسيقى أصيلة، وكان حضوره في المشهد الفني الوطني متميزا ووازنا، من خلال ألحانه العذبة الراقية، ومواضيعه الاجتماعية والإنسانية والدينية والصوفية، وكلماته الرقيقة والعميقة، المختارة بعناية، وأغانيه، التي وسمها بالحب والطيبة، وأداها بعفوية وصدق.
لقد تشبع رويشة بالتراث الأمازيغي القديم، فنقب في أصالته وتنوعه وتعدده وغناه، في الوقت الذي أصبحت فيه الأغنية الأمازيغية تختزل عند البعض إلى بضاعة للاستهلاك المجاني بالعلب الليلية وغيرها. لقد وجد رويشة ضالته في نهمه بالقديم لدى إعلام هذا التراث ك " بوزكري عمران " و" حمو اليزيد " الذي يعتبر هذا الأخير معلمه بامتياز، إضافة إلى آخرين ك " موحا وموزون" و"نعينيعة "وقريبه " مغني" وغيرهم. وها هو اليوم يغادر الساحة الفنية إلى الأبد تاركا وراءه للأجيال الحاضرة والقادمة "ريبيرتوارا" غنائيا زاخرا من الفن الأصيل، ووريثا لسره ابنه البار حمد الله الذي توعد بحمل مشعل أبيه والاستمرار على نهجه بصدق وأمانة.
لم يكن الفنان محمد رويشة يبحث عن الشهرة في مسيرته الفنية، ولم تبهره أضواء الشهرة، بل الشهرة هي التي بحثت عنه واقتحمت ربوعه الحصين وأخرجته من منطقته التي يحبها إلى درجة الجنون. فإن جمهوره هو من احتضنه وفرضه على الإعلام الرسمي الذي تجاهله في البدايات. لقد دخل قلوب المغاربة جميعا؛ العرب منهم والأمازيغ بدون استئذان، داخل المغرب وخارجه. طور معارفه العامة بعصامية منقطعة النظير في جلساته الخاصة مع مثقفي وأطر منطقته وغيرها في جلساته الحميمية معهم، وفي خلوته الخاصة ببيته بخنيفرة، إذ تحول إلى حكيم وفيلسوف في مناقشاته وحواراته الهادئة الرزينة ذات عمق فكري فلسفي رصين، مع معارفه ووسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، رغم قلتها وشحاحتها التي لا تليق بهرميته وأيقونته التي بناها له محبوه وجمهوره بكل محبة وصدق وتلقائية. لقد طبع الراحل محمد رويشة حياته بتواضع وطيبة وخلق، قل نظيرهما، إذ يعيش صاحب الجلباب الصوفي المزركش في منزل متواضع، مكون من طابقين في حي شعبي بمدينة خنيفرة عروسة الأطلس المتوسط، الذي جعل جانبا منه متحفا دائما يضم حوالي 260 قطعة لأشكال وأحجام مختلفة لآلته الوترية، ولشهاداته التقديرية وميدالياته ومجسمات فنية، تلقاها في عدة مناسبات داخل الوطن وخارجه خلال مسيرته الفنية، إلى جانب خلوته التي يركن إليها من أجل التأمل والمطالعة والإبداع. ويتميز عازف "لوتار" بين أبناء مدينته بإنسانيته وكرمه، وكذا عفويته وابتسامته الدائمة التي لا تفارق محياه أبدا. لم يجمع ثروة من فنه ولم يستفد من مأذونية ما(لاكريمة ما) كما هو الشأن بالنسبة لبعض الرياضيين وبعض الفنانين، وكذا بعض المحضوضين، بل عاش لفنه وأخلص له على الكفاف والغنى عن الناس كما يقال.
فما أكثر أمثال محمد رويشة في مغربنا الذين أعطوا الكثير ولا زالوا، رغم التهميش والتقهقر الذي أصاب مجمل الفنون الشعبية، منها على الخصوص الغناء الشعبي، دون محاولة تطويره وتنظيمه حتى يصمد أمام مد العولمة التي تهدف إلى قتل كل ما هو خصوصي وأصيل في ثقافة الشعوب وفنونها، باعتبارها غير منتجة ولا تخضع لقانون السوق العالمي ومنطقه المركانتيلي، الشيء الذي جعل مهرجانات الغناء والرقص العالميين تغزوا مدننا باسم العولمة والحداثة وتذويب فنوننا الشعبية فيها بعد تفريغها من محتواها الفني والثقافي والهوياتي، لتصبح مجرد فولكلور من أجل جلب السياح وتحقيق الانفتاح الشكلي على العالم (مهرجان موازن على سبيل المثال) التي تكلف ميزانية كبيرة ترهق كاهل دافع الضرائب والشركات الكبرى مقابل امتيازات خاصة على حساب مصلحة المواطنين وحاجياتهم اليومية الضرورية.
فالنهوض بفنوننا الشعبية المتعددة المتنوعة لابد من خلق مؤسسة وطنية (المجلس الوطني للفنون الشعبية مثلا) ترعاها تنقيبا وجمعا وكذا دراسة وبحثا وتحليلا، وتهيكلها وتطورها وتعمل على إشعاعها وطنيا وعالميا، مع إحياء بصيغة جديدة لمهرجان الفنون الشعبية المقامة بمراكش والتي يجب أن تكون لا مركزية، تقام في كبريات مدن المغرب، وكذا العمل على إحياء من جديد الفرقة الوطنية للرقص الشعبي التي أوقف نشاطها الحسن الثاني لأسباب غير واضحة. فالشعوب عندما تفقد تراثها الفني والثقافي، تفقد هويتها وأصالتها وتاريخها. لذا لابد من العودة إلى الذات تحدوها إرادة قوية للحفاظ على مقوماتها الفنية والثقافية الأصيلتين، وقيمهما الأخلاقية والجمالية الخاصة، دون إغفال المواكبة الحثيثة لما يجري في العالم من تطور علمي وتكنولوجي فني وثقافي. فالعمق الفني والثقافي الحقيقي للمغرب، إنما يتمثل في التنوع الغني لروافده الفنية والثقافية والتي يشكل التراث الشعبي فيها جزءا ذا منزلة خاصة. ولقد بدا واضحا أن من بين مظاهر رقي مجتمع من المجتمعات، احترامه لتراثه الفني والثقافي بمختلف مكوناته وتنوعها، وسعيه إلى الحفاظ عليه. ولقد كان هاجس توحيد الوعي العام أمرا سيكون ذا أهمية قصوى، لو اهتم بالتوحيد في إطار هذا التنوع والتعدد الفني والثقافي.
رحم الله فناننا الكبير محمد رويشة، الطود الشامخ في الأغنية الأمازيغية والعربية المغربية، وأسكنه فسيح جنانه، راجين من الله عز وجل أن يخلفه نجله الصاعد حمد الله، الذي ظهر وتظهر عليه علامة النبوغ الفني الأصيل في حفل تكريم أبيه في أربعينية وفاته بمسرح محمد الخامس بالرباط مؤخرا، فمن شبه أباه فما ظلم كما يقال. فلتحيا الفنون الشعبية حرة مستقلة، بعيدة عن النظرة الفلكلورية القدحية الضيقة، متمنين من جيلنا الصاعد أن يحافظ على هذه الكنوز الغالية ويعمل على تطويرها وإشعاعها ويمضي بها قدما إلى الأمام.
-------------------
ذ. بنعيسى احسينات - المغرب
لقد جبل محمد رويشة منذ نعومة أظافره على حب الفن والجمال، يستوحي من الطبيعة الصامتة حكمتها، ومن صفاء مناخها الصدق والواقعية، وذلك في أسلوب شيق ممتع شفاف، وألحان شجية وأنغام موسيقية أصيلة تغمر النفس بالحب والحنين، وتوقظ الوجدان إلى معانقة السمو والفضيلة وحب الناس، من خلال شعور بالروح الجماعية تسري في أنفاسه سريان النسيم العليل عبر الجبل والغابة وعبر الحقل والوادي. ذلك هو الفنان الأمازيغي صاحب الحنجرة الأطلسية المتميزة الذي تعلم ويتعلم باستمرار من مظاهر الحياة الطبيعية والاجتماعية التي ما تزال مصدر إلهامه منذ صباه، من خلال ما يسمعه من أهازيج وألحان وأنغام، ويتمثله من أغاني وترانيم على آلته الوترية التي لا تفارقه في شتى المناسبات.
لقد يصح القول أن الأمم التي لا تهتم بفنونها وثقافتها وتراثها تنقيبا ودراسة وتحليلا، وكذا جمعا وتصنيفا وتبويبا ومحافظة وتطويرا، لا يمكن أن تحقق ذاتها ووجودها، ولا يتأتى لها أن تحافظ على هويتها واستمرارها في التاريخ، كما لا يمكن لها أن تساهم في بناء الحضارة الإنسانية. فتبقى محكوم عليها بالتخلف والتهميش، مهددة دائما بالانقراض والفناء. ففن الأمم وثقافتها وتراثها هي اللحمة التي تربط بين أجيالها المتعاقبة، والتي تحقق لها مكانتها بين الأمم، وتجعلها تحافظ على كيانها وهويتها ووجودها. فكم من فنون وكم من تراث وكم من ثقافة ضاعت واندثرت مع الزمن، لكون القائمين عليها لم يعيروا لها أي اهتمام يذكر، همهم الوحيد المصلحة الأنانية الخاصة الآنية. هكذا نجد جل تراثنا الفني والثقافي المادي منه والمعنوي، المكتوب منه والشفهي، تعرض ويتعرض كل يوم للتلف والاندثار بشكل منهجي مقصود وغير منهجي، متروك للتسيب والإهمال. وحتى إذا ما تم جمعه أوالاعتناء به، فذلك بعد تفريغه من محتواه الحقيقي، من أجل استعماله كفولكلور للاستهلاك السياحي لا غير.
وإذا رجعنا إلى تراثنا الموسيقي وعلى الخصوص الشعبي منه بأساليبه المتنوعة ولغاته المتعددة التي كانت تنشط في الأعراس والمواسم والأسواق وبعض الساحات العمومية الكبرى كساحة "جامع لفنا" بمراكش وساحة " لهديم " بمكناس مثلا. يعرف اليوم استهلاكا منقطع النظير في مناسبات الأفراح والفنادق الكبرى وعلب ليلية خاصة ومحلات مفروشة الخاصة بالليالي الحمراء وبعض السهرات المحتشمة في بعض القنوات التلفزية لجلب عدد المشاهدين ودغدغة عواطفهم الفطرية الساذجة. لقد تعرض ويتعرض هذا الفن الشعبي في الموسيقى والغناء، رغم تطوره العشوائي الغير المدروس والغير المنظم، للتهميش الشبه المطلق دون الالتفاتة الجادة لهذا الفن الشعبي، انتقاء وتسجيلا وجمعا ودراسة وتحليلا.. وهو يتعرض كل يوم للإهمال والانتقاص من أهميته، من طرف المهتمين الذين يركضون وراء الربح المباشر والآني لا غيره، وبمنطق المنفعة الجشعة في التعامل مع هذا التراث المتنوع المتعدد الغني الأصيل، الذي لا يتجاوز الاستعمال الفلكلوري الوضيع من أجل الاستهلاك السياحي المقدم للأجانب، كلوحات محنطة وبقايا تاريخ في متحف لا حياة فيه. فهو الآن في طريق التهميش، قدره الاضمحلال والانقراض، باستثناء بعض البحوث اليتيمة في هذا المجال، نخص بالذكر بحث نجمي في العيطة وبحوث أحمد عيدون ابن مدينة الخميسات، الباحث الموسيقي في مجال الموسيقى المغربية الشعبية والعصرية وغيرها، وبعض البحوث الغير الأكاديمية على هامش الأغاني الشعبية المتنوعة والمتعددة في المغرب.
لقد تحول مفهوم الفولكلور حسب مبتكره الكاتب الإنجليزي "وليام جون تومز"، من علم يدرس العادات والتقاليد والممارسات الفنية الشعبية والخرافات والملاحم، إلى اقترانه بنزعة تحقيرية استهلاكية صوب كل ما يخص الطبقات الدنيا في المجتمع من تراثها الشعبي، كأنه مشهد منفلت من دهاليز التاريخ القديم، يقدم صورة مدهشة لبدائية الإنسان مليئة بالإثارة وعناصر الغرابة. ويمكن اختزال خصائص هذه النظرة الفولكلورية القدحية الاستهلاكية إلى الفنون الشعبية والتراث الشعبي في الفصل بين أشكال التراث الشعبي ومضامينه الاجتماعية والإنسانية، وفي اعتباره تراثا ينتمي إلى مجتمع ذي ثقافة دونية لا ترقى في مضامينها ولا في أشكالها إلى مستوى الثقافة "العالمة"، وأخيرا في اعتباره مادة للترفيه والمتعة لأناس منفصلين عنه، ينظرون إليه من خارجه كما هو الشأن بالنسبة للسياح الأجانب.
هذه الخصائص امتدت إلى مرحلة ما بعد الاستقلال وتم تأكيدها خلال ممارسات عديدة. ولعل أخطر ما في هذه الوضعية هو أن هذه النظرة الفولكلورية القدحية الاختزالية يتم ترويجها عبر وسائل الإعلام وبرامج التربية والتعليم والمؤسسات والهيئات المختلفة، مما يؤدي إلى الإساءة إلى التراث الفني والثقافي الشعبي المغربي، وطمس لمعالم الهوية الوطنية. وهكذا تم تدجين الذوق العام وصقله على مقاس النظرة الفولكلورية الاستهلاكية، مما جعل شبابنا ينظر بسخرية وازدراء إلى عناصر تراثهم الشعبي، وفي أحسن الأحوال يكون وسيلة للتفريغ المؤقت عن المكبوتات عن طريق الرقص المصاحب لها في الغالب في كل المناسبات.
لقد لعبت الأغاني الشعبية في القرن التاسع عشر دورا كبيرا في شحذ الهمم والتصدي لكل أشكال الاستعمار، كما كانت أسلوبا خاصا لتمرير خطاب التحرر والاستقلال من براثن الاحتلال. فهي تعتبر تراثا مشتركا بين مختلف مناطق المغرب، ومن أكثر وسائل التعبير تأثيرا في المتلقين الذين يجدون في هذا النوع من الفنون الشعبية متنفسا لمشاعرهم ولمشاكلهم اليومية وترجمة لطموحاتهم وآمالهم الكبيرة. هذا الفن الجميل الرائع، ساهم في تأطير الناس، وتوعيتهم وتقديم فرجة غنية بالترفيه، الجامع بين الهزل والجد والفائدة، وجعلهم ينفتحون على العالم ويتعرفون على خباياه قديما وحديثا.
فمن بين الفنانين الشعبيين الذي بزغ نجمه وسطع نوره وملأ الدنيا بقسمات وتره السجية الدافئة، وصوته الرخيم العذب المتميز، وكلمته الهادفة الصادقة النابعة من أعماق جبال الأطلس المتوسط، تلطفها ثلوج القمم وخرير وادي أم الربيع المتدفق وحفيف أشجار الأرز الشاهقة والطبيعة الخضراء الخلابة وسماء الأطلس السخية. إنه محمد رويشة الفنان العصامي الأمازيغي الأصيل، فنان العمق المغربي وجبال الأطلس الملقب بملك " لوتار " وفريد الأطلس المتوسط بدون منازع وزرياب موسيقى " الوترة " إذ زاد من حجم آلته الوترية "لوتار" أو "لكنيبري"، وانفرد بإضافة الوتر الرابع إليها لإثراء أنغامها وتجديدها.
إن الحديث عن إبداع محمد رويشة، هو حديث عن تاريخ حافل بالعطاء الفني المتميز لحوالي 48 سنة من العطاء. لقد طبع هذا الفنان العصامي بعبقريته الموسيقية والغنائية المتفردة فضاء الأغنية الأمازيغية للأطلس المتوسط وكذا الأغنية الشعبية العربية (العامية المغربية الراقية). لقد بدأ الغناء طفلا لا يتجاوز عمره 13 سنة بمدينة خنيفرة بعد ما غادر مقعد المدرسة عام 1961 وهو من مواليد 1952 أو1950 بمدينة خنيفرة. وبعد مغادرته لصفوف المدرسة، شاءت الأقدار أن يلتقي بالأستاذ في مادة الرياضة البدنية محمد العلوي ، لاعب فريق شباب خنيفرة آن ذاك، الذي شجعه على الاستمرار واستقدمه معه إلى الرباط حيث قدمه إلى القسم الأمازيغي بالإذاعة الوطنية بنفس المدينة. وكانت البداية بتسجيل أول شريط له بالدار البيضاء سنة 1964 مع محمد ريان. واستمر في الغناء وإحياء الحفلات والأعراس المحلية وعلى الصعيد الوطني حتى سنة 1979 حيث اتصلت به عدة شركات فنية للتسجيل، ودخل مسرح محمد الخامس ، حيث غنى لأول مرة سنة 1980، ألبومه الذي يحتوي على أغاني بالأمازيغية والعربية " شحال من ليلة وعذاب " و" أكّي زّورخ أسيدي ياربّي جود غيفي "، وهو الألبوم الذي عرف انتشارا واسعا بين محبيه داخل المغرب وخارجه. تكشفت موهبة رويشة باكرا، لم يقو على مغالبة هوسه بالموسيقى فأغلق دونه باب الدراسة رغم شهادة مدرسيه له بالتفوق. أما حين تنبأ له عميد الموسيقى الأمازيغية حمو اليزيد، ذات يوم، بمستقبل واعد، حين سمعه يدندن على "لوتار"، فقد عرف الشاب محمد رويشة أن طريق المجد له اسم واحد : الاجتهاد والتضحية .ومن بين الإبداعات التي بصم بها الراحل محمد رويشة ربرتواره الغنائي "شحال من ليلة وليلة"، "يا مجمع المؤمنين"، "قولوا لميمتي"، "أيولينو"، و" سامحيي يايما " ورائعته ذائعة الصيت "إناس إناس " .
فالفنان العصامي رويشة يمتاز في أداءه الموسيقي بالمزج بين ألوان محلية ووطنية وذلك في قالب لا يخرج عن المقام الأطلسي الذي يمتاز باعتماده على “ربع نوتة”، أما بالنسبة لآلة الوتر فأشار رويشة نفسه إلى أنها ظهرت في الأطلس المتوسط في القرن الخامس عشر بقبيلة "إيشقيرن" على يد شخص يسمى "أوبراها". وهو بذلك يبقى وفيا لمعنى اسمه “روي شا” بالامازيغية، أي “ اخلط شيئا ”، وهو مزج فني لا يستطيع إتقانه إلا من كانت له أذن موسيقية مرهفة كالفنان محمد رويشة. هو فنان أصيل، صوت مفعم بالأحاسيس الرائعة، متشبث بأصالته المغربية الأمازيغية، ومُعتز بلغتيه، الأمازيغية والعربية المغربية، اللتين أبدع في توظيفهما في أعمال غنائية متنوعة، بأحاسيس مرهفة، وموسيقى أصيلة، وكان حضوره في المشهد الفني الوطني متميزا ووازنا، من خلال ألحانه العذبة الراقية، ومواضيعه الاجتماعية والإنسانية والدينية والصوفية، وكلماته الرقيقة والعميقة، المختارة بعناية، وأغانيه، التي وسمها بالحب والطيبة، وأداها بعفوية وصدق.
لقد تشبع رويشة بالتراث الأمازيغي القديم، فنقب في أصالته وتنوعه وتعدده وغناه، في الوقت الذي أصبحت فيه الأغنية الأمازيغية تختزل عند البعض إلى بضاعة للاستهلاك المجاني بالعلب الليلية وغيرها. لقد وجد رويشة ضالته في نهمه بالقديم لدى إعلام هذا التراث ك " بوزكري عمران " و" حمو اليزيد " الذي يعتبر هذا الأخير معلمه بامتياز، إضافة إلى آخرين ك " موحا وموزون" و"نعينيعة "وقريبه " مغني" وغيرهم. وها هو اليوم يغادر الساحة الفنية إلى الأبد تاركا وراءه للأجيال الحاضرة والقادمة "ريبيرتوارا" غنائيا زاخرا من الفن الأصيل، ووريثا لسره ابنه البار حمد الله الذي توعد بحمل مشعل أبيه والاستمرار على نهجه بصدق وأمانة.
لم يكن الفنان محمد رويشة يبحث عن الشهرة في مسيرته الفنية، ولم تبهره أضواء الشهرة، بل الشهرة هي التي بحثت عنه واقتحمت ربوعه الحصين وأخرجته من منطقته التي يحبها إلى درجة الجنون. فإن جمهوره هو من احتضنه وفرضه على الإعلام الرسمي الذي تجاهله في البدايات. لقد دخل قلوب المغاربة جميعا؛ العرب منهم والأمازيغ بدون استئذان، داخل المغرب وخارجه. طور معارفه العامة بعصامية منقطعة النظير في جلساته الخاصة مع مثقفي وأطر منطقته وغيرها في جلساته الحميمية معهم، وفي خلوته الخاصة ببيته بخنيفرة، إذ تحول إلى حكيم وفيلسوف في مناقشاته وحواراته الهادئة الرزينة ذات عمق فكري فلسفي رصين، مع معارفه ووسائل الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، رغم قلتها وشحاحتها التي لا تليق بهرميته وأيقونته التي بناها له محبوه وجمهوره بكل محبة وصدق وتلقائية. لقد طبع الراحل محمد رويشة حياته بتواضع وطيبة وخلق، قل نظيرهما، إذ يعيش صاحب الجلباب الصوفي المزركش في منزل متواضع، مكون من طابقين في حي شعبي بمدينة خنيفرة عروسة الأطلس المتوسط، الذي جعل جانبا منه متحفا دائما يضم حوالي 260 قطعة لأشكال وأحجام مختلفة لآلته الوترية، ولشهاداته التقديرية وميدالياته ومجسمات فنية، تلقاها في عدة مناسبات داخل الوطن وخارجه خلال مسيرته الفنية، إلى جانب خلوته التي يركن إليها من أجل التأمل والمطالعة والإبداع. ويتميز عازف "لوتار" بين أبناء مدينته بإنسانيته وكرمه، وكذا عفويته وابتسامته الدائمة التي لا تفارق محياه أبدا. لم يجمع ثروة من فنه ولم يستفد من مأذونية ما(لاكريمة ما) كما هو الشأن بالنسبة لبعض الرياضيين وبعض الفنانين، وكذا بعض المحضوضين، بل عاش لفنه وأخلص له على الكفاف والغنى عن الناس كما يقال.
فما أكثر أمثال محمد رويشة في مغربنا الذين أعطوا الكثير ولا زالوا، رغم التهميش والتقهقر الذي أصاب مجمل الفنون الشعبية، منها على الخصوص الغناء الشعبي، دون محاولة تطويره وتنظيمه حتى يصمد أمام مد العولمة التي تهدف إلى قتل كل ما هو خصوصي وأصيل في ثقافة الشعوب وفنونها، باعتبارها غير منتجة ولا تخضع لقانون السوق العالمي ومنطقه المركانتيلي، الشيء الذي جعل مهرجانات الغناء والرقص العالميين تغزوا مدننا باسم العولمة والحداثة وتذويب فنوننا الشعبية فيها بعد تفريغها من محتواها الفني والثقافي والهوياتي، لتصبح مجرد فولكلور من أجل جلب السياح وتحقيق الانفتاح الشكلي على العالم (مهرجان موازن على سبيل المثال) التي تكلف ميزانية كبيرة ترهق كاهل دافع الضرائب والشركات الكبرى مقابل امتيازات خاصة على حساب مصلحة المواطنين وحاجياتهم اليومية الضرورية.
فالنهوض بفنوننا الشعبية المتعددة المتنوعة لابد من خلق مؤسسة وطنية (المجلس الوطني للفنون الشعبية مثلا) ترعاها تنقيبا وجمعا وكذا دراسة وبحثا وتحليلا، وتهيكلها وتطورها وتعمل على إشعاعها وطنيا وعالميا، مع إحياء بصيغة جديدة لمهرجان الفنون الشعبية المقامة بمراكش والتي يجب أن تكون لا مركزية، تقام في كبريات مدن المغرب، وكذا العمل على إحياء من جديد الفرقة الوطنية للرقص الشعبي التي أوقف نشاطها الحسن الثاني لأسباب غير واضحة. فالشعوب عندما تفقد تراثها الفني والثقافي، تفقد هويتها وأصالتها وتاريخها. لذا لابد من العودة إلى الذات تحدوها إرادة قوية للحفاظ على مقوماتها الفنية والثقافية الأصيلتين، وقيمهما الأخلاقية والجمالية الخاصة، دون إغفال المواكبة الحثيثة لما يجري في العالم من تطور علمي وتكنولوجي فني وثقافي. فالعمق الفني والثقافي الحقيقي للمغرب، إنما يتمثل في التنوع الغني لروافده الفنية والثقافية والتي يشكل التراث الشعبي فيها جزءا ذا منزلة خاصة. ولقد بدا واضحا أن من بين مظاهر رقي مجتمع من المجتمعات، احترامه لتراثه الفني والثقافي بمختلف مكوناته وتنوعها، وسعيه إلى الحفاظ عليه. ولقد كان هاجس توحيد الوعي العام أمرا سيكون ذا أهمية قصوى، لو اهتم بالتوحيد في إطار هذا التنوع والتعدد الفني والثقافي.
رحم الله فناننا الكبير محمد رويشة، الطود الشامخ في الأغنية الأمازيغية والعربية المغربية، وأسكنه فسيح جنانه، راجين من الله عز وجل أن يخلفه نجله الصاعد حمد الله، الذي ظهر وتظهر عليه علامة النبوغ الفني الأصيل في حفل تكريم أبيه في أربعينية وفاته بمسرح محمد الخامس بالرباط مؤخرا، فمن شبه أباه فما ظلم كما يقال. فلتحيا الفنون الشعبية حرة مستقلة، بعيدة عن النظرة الفلكلورية القدحية الضيقة، متمنين من جيلنا الصاعد أن يحافظ على هذه الكنوز الغالية ويعمل على تطويرها وإشعاعها ويمضي بها قدما إلى الأمام.
-------------------
ذ. بنعيسى احسينات - المغرب